
في مسرحٍ سياسيٍّ يتغيّر سريعًا، جاءت الضربة الإسرائيلية داخل قطر لتدفع بالعناوين الكبرى إلى الواجهة: الأمن، قنوات التفاوض، والتنسيق الخليجي. لم يمرّ الخبر كتيارٍ عاديٍّ في نشرات المساء، بل أعاد ضبط ساعات الأمن الخليجي وفتح الباب أمام أسئلة مؤجلة: هل تغيّرت قواعد الاشتباك؟
تبدو الدوحة ساحة اختبارٍ حسّاسة لأنها تجمع بين أدوار الوساطة وموقع القاعدة العسكرية الأجنبية، ما يجعل أي استهدافٍ في مجالها السيادي رسالةً ردعية-تفاوضية مزدوجة. فالمغزى لا يتوقف عند الضغط على فصيلٍ فلسطيني، بل يمتد إلى إظهار كلفة رعاية الوساطة وقياس صلابة الموقف الخليجي.
هل كانت العملية قياس حرارة؟ الأقرب للتحليل أنها تقدير موقف مركّب: سياسيًّا لقراءة طبيعة الرسائل الرسمية، وأمنيًّا لرصد إجراءات حماية الوسطاء والوفود، وعلى مستوى المسارات لمراقبة مرونة الوسطاء أمام الضغوط. على نحوٍ أوضح: الرسالة تستفهم: هل يكفي البيان؟ وهل يتحوّل الغضب إلى قواعد عمل؟
على الضفة الخليجية، تتحسّس العواصم أثر السابقة. إذا سقطت سابقة داخل أراضٍ عربية حليفة، فما الضامن لعدم التكرار؟ من هنا تتقدم على الطاولة سلّة إجراءات محتملة: تطوير شبكات الدفاع الجوي ومكافحة المسيّرات، توثيق أمن مقار الوساطة، تحسين جاهزية الاستجابة، إدارة أكثر صرامة للمجال السيادي، وإعلان خطوط حمراء موحّدة.
أمّا في المسار دور مجلس الوزراء القطري المؤسسي، فثمة أدوات ضغطٍ دون عتبة التصعيد العسكري: مذكرات احتجاجٍ صريح، مراجعةٌ مدروسة لملفات التعاون الحسّاسة، تحريك مسارات مساءلةٍ أممية، لغة سياسيّة متماسكة تُعرّف خرق السيادة بوصفه تهديدًا مباشرًا للاستقرار يستوجب إجراءات ردعٍ تراكمية. في هذه النقطة تبرز الحكمة: تجفيف مكاسب الاستهداف دون التورط في مواجهةٍ غير محسوبة.
الموقف المصري محوري بحكم التاريخ والأمن ودور القاهرة في إدارة الملفات الفلسطينية، غير أن الاحتمال العملي لا يذهب إلى تحركات منفردة خارج الأطر، بل إلى ضغطٍ دبلوماسيٍ محسوب مع تنسيقٍ عربيٍ وثيق يهدف إلى تحصين أمن الوساطة مع حفظ أبواب الحل مفتوحة. هكذا تُوازن القاهرة بين الأمن القومي وأدوار الوساطة، وتدفع في صياغة موقفٍ عربيٍّ متماسك.
هل يمكن أن يتحوّل الغضب الشعبي إلى موقفٍ عربيٍّ واحد؟ الواقعية السياسية تقول إن العلاقات مع الغرب متشعبة، وأن القطيعة غير عملية. إلا أن ما يمكن تحقيقه هو هامش استقلاليةٍ أوسع: موقفٌ موحّد في قضايا السيادة، تنويعٌ مدروس للشراكات، وردعٌ مؤسسي تُرسل للشركاء الدوليين إشارة دقيقة: لسنا في خصومةٍ شاملة، لكن المساس بالأراضي العربية غير مقبول.
وأين روسيا والصين من ذلك؟ الظاهر أنهما يعتمدان خطاب التهدئة، لكن الحياد لا يمنع توسيع النفوذ: كلما تآكل اليقين بـمظلّةٍ أحادية، ازداد مجال المناورة عبر صفقات تسليحٍ وتقنية لا يقطع الجسور مع الغرب بل يعزّز القدرة على التفاوض. بهذا التموضع تكسب العواصم مساحة مناورة دون انقلاباتٍ فجائية.
من العِبَر المباشرة أن أمن الوسطاء ليست ترفًا دبلوماسيًا بل جزءًا من الأمن القومي. من ثمّ تبدو فكرة «ميثاق عربي لأمن الوساطة» أداةً رادعة: قواعد واضحة لحماية البعثات، آلية إنذارٍ مبكر، وآثارٌ قانونيةٌ مُعلنة على كل خرق، خط اتصال ساخن مع الشركاء الدوليين لتثبيت الخطوط الحمراء.
اقتصاديًا، تشتبك المصالح المالية بالقرار؛ الطاقة والاستثمار والسياحة تفترض بيئةً آمنة. كل سابقةٍ مماثلة تزيد علاوات المخاطر، وتؤثر في تدفقات رأس المال. وعليه فإن ترسيخ قواعد ردعٍ مؤسسية أقل تكلفةً بكثير من احتواء توابع كل صدمة. في هذه النقطة تتقاطع مصلحة الفاعل الاقتصادي مع صانع القرار: حكمة الرد هي المعادل لثقة الأسواق.
في الخلاصة، استهداف مواقع في الدوحة اختبارٌ قاسٍ لهندسة الردع الإقليمي وأدوار الوسطاء. إذا كان المقصود جسّ النبض، فإن الاستجابة الممكنة موجودة: تضامنٌ سياسيٌّ سريع، وميلٌ لتغليب العمل المؤسسي، مع أسئلةٍ صعبةٍ لواشنطن وتحذير من سابقة التكرار. وبموازاة دورٍ مصريٍّ راجح وبناء جسور دفاعٍ مشتركة، يمكن للعرب أن يرفعوا كلفة الخرق دون الانزلاق لصدامٍ شامل. تلك هي المعادلة الواقعية: ردعٌ متدرّج بلا مغامرة، وموقف سيادي موحّد يقول إن استهداف أراضي الوسطاء ليس ورقة مجانية، وإن السيادة العربية لا تُختبر مرتين.
ولأجل حاضرٍ أكثر أمانًا، تبقى ركائز ملحّة: تحديث الدفاعات المشتركة، تقنين حماية الوساطة، ولغة قانونية صارمة تغلق شهية تكرار السوابق. عبر ذلك فقط، تتحوّل الأزمة فرصة في بناء أمنٍ عربيٍّ أمتن لا تخاصم العالم، لكنها تُحسن الدفاع عن نفسها.
....
Eco-Friendly Fashion shopysquares Our Partner Site Latest Updates